المصدر: موقع مدينة القدس
نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية قبل أيام خبراً مثيراً مفاده أن الأقصى المبارك "سيهدم" يوم السادس عشر من شهر آذار مارس القادم، باعتبار ذلك وارداً في نبوءة يهودية تدعي أن إعادة بناء كنيس الخراب (هخوربا) الذي كادت سلطات الاحتلال أن تنتهي من بنائه قرب المسجد الأقصى المبارك سيكون إشارة إلى إنهاء الوجود الإسلامي في منطقة الأقصى تمهيداً لإعادة بناء المعبد اليهودي المزعوم على أرض المسجد الأقصى المبارك مباشرة.. وللمفارقة، يزعم خبر الصحيفة المذكورة أن الانتهاء من بناء كنيس الخراب سيكون يوم الخامس عشر من شهر آذار أي قبل يوم واحد من اليوم الموعود.
ولمن يذكر.. قبيل نهاية العام الماضي أعلنت بعض وسائل الإعلام أن عدداً من الجماعات اليهودية المتطرفة كانت قد أعلنت أن نبوءتها لموعد بدء بناء المعبد المزعوم ستكون يوم الخامس أو السادس والعشرين من الشهر نفسه، الأمر الذي لم يجد له صدىً في وسائل الإعلام العربية والمسلمة في ذلك الوقت على الأقل على حد علمي.
الأمر الذي لاحظته في الفترة الماضية خلال البحث في مسألة تاريخ 16 و 26 آذار القادم ومسألة النبوءات التوراتية في مسألة بناء المعبد أن الفكرة التي طرحتها صحيفة هآرتس وجدت طريقها إلى الاهتمام الإعلامي لدى كثير من المهتمين عبر الإنترنت، وخاصة من باب التحذير من إمكانية هدم الأقصى في هذا التاريخ... ولذلك كان لابد من توضيح نقاط مهمة في هذا المجال كونه يمس أصل قضية بيت المقدس التي هي أساس قضايا أمتنا وأخطر ما تمر به أمتنا اليوم من محن وبلايا.
أولاً ينبغي أن نقول إن هدم الأقصى لا يمكن أن يحدث علمياً إلا في حال إزالة آثار كافة أسوار المسجد الأقصى المبارك، وذلك ببساطة لأن مفهوم الأقصى الصحيح ليس مبنى (وأقصد هنا الجامع القِبلي الذي يظنه كثير من المسلمين المسجدَ الأقصى) وإنما هو قطعة أرض مسورة بسور شبه مستطيل وتحتوي على عدد كبير من المباني المختلفة أهمها الجامع القبلي وقبة الصخرة المشرفة ولإزالة كينونة المسجد الأقصى المبارك من الوجود لابد من إزالة كافة أسواره ليفقد عنصر الحدود وهو أحد العناصر الأساسية الثلاثة لمفهوم المسجد (وهي الأرض والحدود والقِبلة). وأشير هنا إلى أن إزالة أسوار المسجد الأقصى المبارك من الوجود نهائياً لم تحدث في التاريخ إطلاقاً، حيث أثبت المؤرخون أن زوايا المسجد الأقصى المبارك الأصلية بقيت موجودة على الدوام منذ بنائها أول مرة. لكن هذا لا يعني أن هدم معالم المسجد الأقصى المبارك مثل قبة الصخرة أو الجامع القبلي تمثل مشكلة لأنها كلها الآن أجزاء رئيسية من المسجد الأقصى المبارك.
وثانياً، لابد من التنبيه إلى أن الهدم ليس الخطة المطروحة حالياً على الأجندة الصهيونية – وإن كانت ما تزال وستظل أكبر أمنية لدى دولة الاحتلال وجماعاتها المتطرفة – وإنما طرح مؤخراً سيناريو آخر لا يقل خطراً عن الهدم، وهو تقسيم المسجد الأقصى المبارك بين المسلمين واليهود على غرار ما حصل في المسجد الإبراهيمي في الخليل عام 1994م، وهذا الأمر مطروح بقوة في أجندة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مؤخراً وحتى على أجندة بعض الجماعات المتطرفة، وسبب رسم هذا السيناريو هو فشل المشروع الصهيونية الأكبر والذي كان يقضي بهدم كل شيء داخل المسجد الأقصى المبارك وتحويله إلى معلم يهودي بالكامل، والفشل هنا تجلى في تأخر تنفيذ هذا المشروع حتى هذه المرحلة التي تعد متأخرة كثيراً لدى القوى اليهودية المتطرفة. فكانت فكرة التقسيم أنجع وأفضل في رأي بعض القادة والمحللين من الطرف الآخر، ولا ننسى هنا ما أقدمت عليه قوات الاحتلال العام الماضي عندما قامت بإجراء مناورة لتمثيل اقتحام بوابات المسجد الأقصى المبارك وفرض منطقة "أمنية" تقتطع من ساحاته، وما قامت به بعد أيام من تلك المناورة عندما أجرت عمليات تدريب لاقتحام الأقصى المبارك عبر تسلق أسواره لتحاكي سيناريو قيام المصلين بمحاولة الدفاع عن الأقصى بإغلاق بواباته والاعتصام داخل مبانيه مثل الجامع القبلي أو قبة الصخرة. وهذا السيناريو مطروح للتنفيذ سواء في الموعد الذي طرحته الصحيفة أو غيره.
لكن في معرض هذا التحليل أجد من المهم الإشارة إلى أن المسألة التي تحتاج توضيحاً وتأكيداً بل زراعة في النفوس والعقول هنا هي أن مشكلة الأقصى الأخطر والأكبر ليست الهدم أو التقسيم بأي حال من الأحوال، وذلك لأن الهدم أو التقسيم نفسه ليسا إلا مجرد نتيجةٍ للمشكلة الرئيسية والأكبر في الأقصى المبارك.. وهي الاحتلال عينه.. فالأقصى المبارك محتل، وهذه النقطة بالذات ينبغي أن تنهي كل التكهنات والتحليلات حول مستقبل الأقصى وما يمكن أن يحدث فيه على المدى القريب أو البعيد. فالاحتلال نفسه يعني أن التحرك لتحرير الأقصى المبارك هو الأولوية الكبرى بغض النظر عن مُكوِّنات الأقصى من حيث هدمها أو بقاؤها أو بقاء الوضع على ما هو عليه كما هي الحال الآن. هذه النقطة الرئيسية هي التي يجب أن تكون الأساس لفهمنا لقضية الأقصى المبارك.
من هذه النقطة الأساسية لابد من القول إن التهديدات والتكهنات التي تطلق بين الفينة والأخرى يجب أن لا تكون هي المحرك لأمتنا فيما يتعلق بقضية المسجد الأقصى المبارك، وإنما يجب أن يكون التحرك على مستوى المشكلة الرئيسية وهي مشكلة الاحتلال عينه، وأقول هذا الكلام وأنا ألاحظ النداءات والصرخات التي تنطلق هنا وهناك محذرة من السادس عشر من شهر آذار القادم وما سيحدث فيه.. ومع تقديري لصدق أهداف مطلقي هذه النداءات والتحذيرات في محاولة تنبيه المسؤولين والعامة على حد سواء إلى خطورة الوضع الحالي في الأقصى، إلا أنني يجب أن أنبه إلى التخوف من أن تنقلب مثل هذه النداءات إلى عكس المراد منها، فتتحول إلى تحضير نفسي للناس نحو تقبل فكرة حدوث مكروه للمسجد الأقصى المبارك في هذا الموعد أو غيره بدلاً من أن يكون ذلك دافعاً لمنع مثل هذا الحدث من الوقوع أصلاً.
إن التاريخ الذي أعلنته صحيفة هآرتس والجماعات اليهودية المتطرفة ليس إلا بالون اختبار لردة فعل المسلمين كما حدث دائماً. وربما يقول أحدهم هنا إن هذا الأمر غير متحقق نظراً لكثرة "بالونات الاختبار" هذه، وهذا يدل على قصور في فهم طبيعة التحرك الصهيوني اليهودي في مسألة المسجد الأقصى المبارك، حيث يجب أن نعلم أن بالونات الاختبار الكثيرة مسألة معروفة في السياسة الصهيونية التي دأبت على إطلاق هذه الاختبارات للرأي العام في فترات مختلفة ثم تقرر بعدها التحرك أو عدمه بناءً على طبيعة وحجم ردة الفعل العربية والإسلامية.
ولذلك، فإن الرد الصحيح على التهديدات التي أطلقتها صحيفة هآرتس وغيرها من وسائل الإعلام الصهيونية في العالم ينبغي أن يكون حازماً وواضح التشدد ويجب أن يكون الآن وليس بعد فترة ويتواصل بغض النظر عن أي تغييرات أو أحداث، وذلك بهدف إعطاء رسالة تحذير شديدة اللهجة لسلطات الاحتلال كي لا تجرؤ على التحرك حسب المخططات المرسومة في التاريخ المذكور، لا الانتظار والمساهمة – عن غير قصد – في تهيئة الرأي العام لتقبل أي اعتداء والانتقال من التحرك لمنع أي اعتداء إلى انتظار الاعتداء لرسم ردة الفعل بعد حصوله.
إن القدس لا شك عنوان المرحلة القادمة، والمسجد الأقصى المبارك عاد إلى مكانه الطبيعي في صدارة اهتمامات الأمة العربية والإسلامية، والفترة القادمة ستشهد تطورات سيكون لها الأثر الأكبر في سير الأحداث ليس في القدس فقط.. بل في المنطقة بأسرها... فهل سنكون قادرين على تحمل المسؤولية التي ألقيت على عاتقنا لحماية هذه المقدسات وتغيير واقع الاحتلال إلى مستقبل الحرية؟